في رثاء حال الصحافة المصرية!

من قبل، كانت الصحافة المصرية تشكل مدرسة للإعلام العربي ككل، إنْ على مستوى تقنيات الممارسة المهنية، أو على مستوى الموقف والالتزام الذي يَسِمُ العاملين في هذا القطاع، ووجدنا أسماء بارزة تشكل قدوة ونماذج تُحتذى من لدن باقي الصحافيين في الوطن العربي.
أما اليوم، فقد تحوّل الإعلام المصري إلى أضحوكة ومهزلة، إذ صار مثالا للرداءة والابتذال والانحطاط، بعدما جعله عبد الفتاح السيسي ألعوبة بين يديه، يوجّهه كيفما يشاء، ويسخّره لمحاولة تلميع صورته التي تزداد قتامة يومًا بعد يوم، بفعل نزعته الديكتاتورية، وسلوكه القمعي الذي يسعى إلى إخراس الأصوات المعارضة كافة، والزجّ بها في غيابات السجون بتهم واهية وغير مستساغة.
والمشكلة أن هذا التوصيف يشمل الإعلام المصري بنوعيه الرسمي وغير الرسمي، إذ انساقت القنوات التلفزيونية الخاصة وراء التوجيهات الصارمة المفروضة عليها، فحصرت نفسها بين مطرقة التمويل المتحكم فيه من طرف الموالين للسيسي، وبين سندان الخطاب السياسي الأوحد الذي يردد النغمة نفسها.
بيد أن الواقعين تحت تخدير السلطة السياسية والمالية القاهرة، يتجاهلون التحولات الحاصلة في مجال وسائط الاتصال المتعددة، فبات من الصعب أن ينساق المتلقي إلى نظرة واحدة للأمور ورواية بعينها للأحداث الجارية، فما عاد الإعلام الرسمي ولا نظيره «الخاص» يؤثّر في الرأي العام، وذلك بعدما صار الفضاء السمعي البصري مفتوحا على العالم، وكلما أغلق باب داخل البلاد، فُتحت أبواب خارجها، مثلما وقع مع القنوات الفضائية التي تُبثّ انطلاقا من تركيا، ساعية إلى استقطاب المُشاهد المصري خاصة والعربي عموما. دون أن نغفل الدور المركزي الذي تتولاه في هذا المجال شبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية، مستفيدة من عدم القدرة على حظرها أو تكييفها مع السياسة الرسمية البئيسة.
وبفعل تجاوب الإعلاميين المصريين المعارضين مع نبض الشارع المصري وواقعه اليومي ومعاناته المستمرة، صاروا نجوما في البيوت وفي المواقع الإلكترونية، ومؤثرين حتى في منتديات التواصل الاجتماعي، كما هو الحال بالنسبة لمعتز مطر الذي وجد نداءه الأخير صداه العملي لدى الكثير من أبناء الكنانة. أما (ببغاوات) «التوك شو» في القنوات المصرية المحلية فلم يعد أحد يعبأ بترهاتهم، بعدما فضلوا أن يكونوا بوقا رديئا لسيدهم الذي علمهم ترويج الأوهام.

كومبارس اسمه نقابات!

الطريف في الأمر أن النظام المصري ـ وأبواقه ـ يبذل قصارى جهوده من أجل تشويه سمعة الإعلاميين المعارضين ذوي التأثير الملموس، عبر إلصاق تهم واهية بهم، إنها تهمة الانتماء إلى «جماعة الإخوان المسلمين»، فكل من ينتقد السيسي ولا يسير على منواله، يصبح «إخوانيا»، وجب إدانته وإلحاق أقسى العقوبات به. ويجد نظام السيسي المؤازرة والسند في نقابة الفنانين ونقابة الصحافيين اللتين تسارعان إلى نبذ أي مُنتمٍ لهما، يقوم بالتغريد خارج السرب، حتى ولو قال كلاما عاديا يدخل في مجال الرأي البسيط، فتنزل التهم الجاهزة عليه، من قبيل: الإساءة إلى مؤسسات الدولة، والانتماء إلى جماعة محظورة، والتعريض بمكانة مصر وبهويتها الثقافية، ونقل معلومات من مواقع التواصل الاجتماعي أو استضافة شخصيات غير مؤهلة… الخ.
زميلنا الكاتب الصحافي أسامة عجاج، كتب أمس (الخميس) في صحيفة «العرب» القطرية مقالا يرثي فيه حال الإعلام المصري، مستدلا بما وقع لرئيس تحرير صحيفة «المشهد» مجدي شندي، من قرارات مجحفة على يد المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (والحقيقة أنه مجلس لتخريب الإعلام وليس لتنظيمه)، مع أن الرجل ـ أي مجدي ـ ضيف شبه دائم على قنوات «الجزيرة»، مهمته الدفاع عن السياسة المصرية. ولاحظ أسامة عجاج أن الأمر ليس مقتصرا على لائحة «جزاءات» نقابية فقط، بل مر بمراحل عديدة، بدأت بالحدث الأبرز وهو اقتحام مقر نقابة الصحافيين منذ حوالي ثلاث سنوات، وتقديم النقيب الأسبق يحيى قلاش ومعه اثنان من أعضاء مجلس النقابة إلى النيابة وعرضه على القضاء حتى تم الإفراج عنه، وكانت الكارثة أن عددا من الصحافيين أيّدوا الاقتحام وشكّلوا جبهة أطلقوا عليها «تصحيح المسار» جرى مكافأة كل المشاركين فيها.
أمام هذا الواقع المأزوم، يدعونا أسامة عجاج، ألا نتعجب إذا عرفنا أن مصر تقع في المرتبة الـ161 من أصل 181 دولة في مجال حرية الصحافة، وفقًا لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» العام الماضي، وقال الكاتب الصحافي: لننتظر في أقرب وقت «إعلان وفاة مهنة» كانت رائدة في تنوير المصريين، ومؤسسات عريقة عندما كانت هناك حرية إعلام، وأصبحت الآن سلعة نادرة!

أحمد منصور في مرمى السهام!

ومن بين الإعلاميين المستهدفين، باستمرار، من طرف أبواق السيسي، نجم «الجزيرة»، أحمد منصور الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، حينما كان يقدم برنامجه الشهير «بلا حدود»، وحتى حينما توقّف عن تقديمه وآلت المهمة إلى إعلاميّ آخر.
إنهم لا يقوون على انتقاد مهنية الرجل وجرأته وثقافته وسعة أفقه، ولكنهم يبحثون عن انتماء محتمل له إلى «جماعة الإخوان المسلمين»، دون أن يرغبوا في التمييز بين انتمائه السياسي أو المذهبي (إن وُجد) وبين ممارسته لمهنة الإعلام بجدارة واستحقاق. فليكن إخوانيا أو سلفيا، مؤمنا أو ملحدا، ليبراليا أو شيوعيا؛ المهم هو أن يكون متشبّعا بالقيم الإنسانية المشتركة، وملتزما بالموضوعية في ممارسته الإعلامية.
ولا يكتفي خصوم أحمد منصور بالتركيز على انتمائه المذهبي حجّةً للهجوم عليه، بل يبحثون في سيرته الذاتية، ويتعقبون أحواله العائلية والعاطفية والنفسية في الحل والترحال، من أجل الانتقاص من صورته ومكانته. والغريب في الأمر أنهم يزعمون كونهم من أنصار التحرر والانفتاح والحريات الفردية بصيغها المختلفة، ولكنهم يتحولون إلى واعظين في الأخلاق والقيم حين يودّون الانتقاص من قيمة شخص ما والانقضاض عليه، بالتركيز على جوانبه الشخصية!
غاب أحمد منصور من تقديم برنامجه الشهير، فكانت فرصة للهمز واللمز والشماتة. وكتب مقالا وضع فيه التجربة الرئاسية القصيرة لمحمد مرسي في ميزان النقد والتقويم، فكثر «المعلّـقون» الذين صاروا يبحثون في كومة قش عن إبرة تدلّهم على سرّ «الجفاء» الذي نما بين صاحب «بلا حدود» وعشيرته من «الإخوان»… وكلما شرع أحدهم في الكتابة في الموضوع نيابة عن سيده، صاح من شدة الفرح: «وجدتها… وجدتها»!

كاتب صحافي من المغرب

ذات صلة